كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



(5) كَلِمَةُ الِاعْتِدَالِ الْوُسْطَى فِي الْخِلَافِ بَيْنَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ. قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي شِفَاءِ الْعَلِيلِ: اعْلَمْ أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ فَاعِلٌ غَيْرُ مُنْفَعِلٍ، وَالْعَبْدَ فَاعِلٌ مُنْفَعِلٌ. وَهُوَ فِي فَاعِلِيَّتِهِ مُنْفَعِلٌ لِلْفَاعِلِ الَّذِي لَا يَنْفَعِلُ بِوَجْهٍ. فَالْجَبْرِيَّةُ شَهِدَتْ كَوْنَهُ مُنْفَعِلًا يَجْرِي عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ وَالْمَحَلِّ، وَجَعَلُوا حَرَكَتَهُ بِمَنْزِلَةِ حَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ وَلَمْ يَجْعَلُوهُ فَاعِلًا إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، فَقَامَ وَقَعَدَ وَأَكَلَ وَصَلَّى وَصَامَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ: مَرِضَ وَأَلِمَ وَمَاتَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِيهِ مُنْفَعِلٌ مَحْضٌ. وَالْقَدَرِيَّةُ شَهِدَتْ كَوْنَهُ فَاعِلًا مَحْضًا غَيْرَ مُنْفَعِلٍ فِي فِعْلِهِ. وَكُلٌّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ نَظَرَ بِعَيْنٍ عَوْرَاءَ. وَأَهْلُ الْعِلْمِ وَالِاعْتِدَالِ أَعْطَوْا كُلَّ الْمَقَامَيْنِ حَقَّهُ وَلَمْ يُبْطِلُوا أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ، فَاسْتَقَامَ نَظَرُهُمْ وَمُنَاظَرَتُهُمْ وَاسْتَقَرَّ عِنْدَهُمُ الشَّرْعُ وَالْقَدَرُ فِي نِصَابٍ وَشَهِدُوا وُقُوعَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى مَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ وَأَفَاضَ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ وَالشَّوَاهِدِ عَلَيْهِ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ.
وَمَا ذَكَرَ مِنْ نَوْطِ خَطَأِ الْغُلَاةِ بِنَظَرِ بَعْضِهِمْ إِلَى أَحَدِ وَجْهَيِ الشَّيْءِ أَوْ جُزْئِهِ وَنَظَرِ الْآخَرِينَ إِلَى الْآخَرِ يَرْجِعُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ مِنَ الْأَخْذِ بِبَعْضِ النُّصُوصِ وَالْغُلُوِّ فِيهِ وَتَرْكِ الْبَعْضِ الْآخَرِ فِي الْحَقِيقَةِ الْوَاحِدَةِ. غَلَتِ الْقَدَرِيَّةُ فِي مَسْأَلَةِ الْحِكْمَةِ فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، وَالْأَمْرِ وَالتَّشْرِيعِ، وَغَلَتِ الْجَبْرِيَّةُ فِي مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ. فَهَؤُلَاءِ جَوَّزُوا أَنْ تَخْلُوَ الْمَشِيئَةُ عَنِ الْحِكْمَةِ، وَأُولَئِكَ قَيَّدُوا مَشِيئَةَ الرَّبِّ بِمَا تَصِلُ إِلَيْهِ أَفْهَامُهُمْ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُؤْمِنُ بِالصِّفَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا، وَنِزَاعُهُمُ الطَّوِيلُ الْعَرِيضُ فِي مَسْأَلَةِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ مَبْنِيٌّ عَلَى ذَلِكَ، فَالْغُلَاةُ فِي إِثْبَاتِهَا قَالُوا: إِنَّ فِي كُلِّ فِعْلٍ يَقَعُ التَّكْلِيفُ بِهِ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا حَسَنًا أَوْ قُبْحًا ذَاتِيًّا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ وَيَأْتِي الشَّرْعُ بِالْأَمْرِ كَاشِفًا لِحُسْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَبِالنَّهْيِ كَاشِفًا لِقُبْحِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ حَسَنًا بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ وَلَا قَبِيحًا بِمُجَرَّدِ النَّهْيِ وَالْغُلَاةُ فِي نَفْيِهَا قَالُوا: لَا حُسْنَ وَلَا قُبْحَ ذَاتِيًّا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ يَكُونُ مَنَاطَ التَّكْلِيفِ وَسَبَبَهُ وَسَبَبَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِالشَّرْعِ وَحْدَهُ، فَالْعَدْلُ وَالصِّدْقُ وَالصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ لَا حُسْنَ فِيهَا لِذَاتِهَا بَلِ الْأَمْرُ بِهَا هُوَ الَّذِي جَعَلَهَا حَسَنَةً، وَكَذَلِكَ الظُّلْمُ وَالْكَذِبُ وَالسُّكْرُ لَا قُبْحَ فِيهَا لِذَاتِهَا بِهَذَا الْمَعْنَى، بَلْ عُرِفَ قُبْحُهَا بِالشَّرْعِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ الرَّبُّ بِمَا نَهَى عَنْهُ وَيَنْهَى عَمَّا أَمَرَ بِهِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكَانَ الْجَوْرُ وَالْكَذِبُ حَسَنًا وَالْعَدْلُ وَالصِّدْقُ قَبِيحًا، وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ كُلُّهَا، لِأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، وَلَكِنْ وَقَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْقَائِلِينَ بِهِ فِي الْإِفْرَاطِ وَالْغُلُوِّ فَالْقَوْلُ الْوَسَطُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُعْتَدِلُونَ الْجَامِعُ بَيْنَ النُّصُوصِ: أَنَّ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى لَا تَعَارُضَ بَيْنِهَا فَلَا تَتَعَلَّقُ مَشِيئَتُهُ تَعَالَى بِمَا يُنَافِي حِكْمَتَهُ وَعَدْلَهُ وَرَحْمَتَهُ وَحِكْمَتَهُ لَا تَقْتَضِي تَقْيِيدَ مَشِيئَتِهِ بِمَا نَفْهَمُهُ وَنَعْقِلُهُ نَحْنُ مِنْهَا بِحَيْثُ نُوجِبُ عَلَيْهِ بَعْضَ الْأَوَامِرِ وَالْأَفْعَالِ، وَنَحْظُرُ عَلَيْهِ بَعْضَهَا وَإِنَّمَا نَعْتَقِدُ أَنَّ كُلَّ مَا يَأْمُرُ بِهِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَأَنَّهُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا هُوَ حَسَنٌ وَلَا يَنْهَى إِلَّا عَمَّا هُوَ قَبِيحٌ، كَمَا قَالَ: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [16: 90] وَقَالَ: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [7: 28] وَهَذَا احْتِجَاجٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَالْمُرَادُ فِيهِ بِالْفَحْشَاءِ وَالْفَاحِشَةِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ وَهُوَ مَا عَظُمَ قُبْحُهُ، وَلِأَجْلِهِ نَهَى عَنْهُ وَحُسْنُ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ وَلِأَجْلِهِ أَمَرَ بِهِ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ لِمَا فِي نَفْسِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِنَ الْحُسْنِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَقَدْ يَكُونُ ابْتِلَاءً لِلْعَبْدِ لِأَجْلِ الْقِيَامِ بِهِ لِمَحْضِ الِامْتِثَالِ وَالطَّاعَةِ وَهَذِهِ مَصْلَحَةٌ وَمَنْفَعَةٌ حَسَنَةٌ، لَكِنَّ حُسْنَهَا لَيْسَ فِي ذَاتِهَا بَلْ فِي شَيْءِ خَارِجٍ عَنْهَا، وَمِنْهُ أَمْرُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ. وَجَمِيعُ الْأَفْعَالِ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْفُقَهَاءُ تَعَبُّدِيَّةً، فَالصَّلَاةُ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي تَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِإِقَامَتِهَا، فَحُسْنُهَا ذَاتِيٌّ لَهَا؛ لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُنَاجَاةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَذِكْرٌ وَمُرَاقَبَةٌ لَهُ، وَلَكِنَّ فِيهَا مَا لَا يُدْرِكُ الْعَقْلُ حُسْنَهُ فِي ذَاتِهِ كَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِيهَا، وَإِنْ جُوِّزَ أَنْ يَكُونَ لَهُ حِكْمَةٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى فَوْقَ مُجَرَّدِ تَعَبُّدِنَا بِهِ. وَقَدْ شَبَّهَ الْغَزَالِيُّ هَذِهِ الْحِكْمَةَ بِحِكْمَةِ الطَّبِيبِ فِي تَفَاوُتِ مَقَادِيرِ أَجْزَاءِ الدَّوَاءِ الْمُرَكَّبِ مِنْ عِدَّةِ أَجْزَاءٍ وَمَا يَنْبَغِي لِلْمَرِيضِ مِنَ التَّسْلِيمِ لَهُ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ. وَالْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ، وَأَكْبَرُهُ أَنَّهُمَا يُسَهِّلَانِ لِلشَّيْطَانِ إِيقَاعَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ السُّكَارَى وَالْمُقَامِرِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَمَعَ غَيْرِهِمْ، وَيَصُدَّانِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ وَهَذِهِ قَبَائِحُ ذَاتِيَّةٌ فِيهِمَا.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ يَخْلُقُ بِقَدَرٍ وَنِظَامٍ وَحِكْمَةٍ وَسُنَنٍ لَا أُنُفًا وَلَا جُزَافًا وَلَا عَبَثًا، وَأَنَّهُ حَكِيمٌ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، لَمْ يُشَرِّعْ لِعِبَادِهِ شَيْئًا عَبَثًا كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْهُمْ عَبَثًا، وَأَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ قَادِرًا مُرِيدًا فَاعِلًا بِالِاخْتِيَارِ، يُرَجِّحُ بِحَسَبِ عِلْمِهِ النَّظَرِيِّ وَشُعُورِهِ الْوِجْدَانِيِّ بَعْضَ الْأَعْمَالِ عَلَى بَعْضٍ، وَيَحْكُمُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَقْدِرُ عَلَى تَكَلُّفِ مَا يُؤْلِمُهُ وَلَا يُلَائِمُ هَوَاهُ وَلَذَّتَهُ، وَأَنَّ أَفْعَالَهُ تُسْنَدُ إِلَيْهِ وَيُوَصَفُ بِهَا لِأَنَّهَا تَقُومُ بِهِ وَتَصْدُرُ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِ، لَا لِأَنَّهُ مَحِلُّهَا، وَتُنْسَبُ إِلَى مَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ لَهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَالْمُعْطِي لَهُ هَذَا التَّصَرُّفَ وَالِاخْتِيَارَ، وَالْهَادِي لَهُ إِلَى السُّنَنِ وَالْأَسْبَابِ، وَالْخَالِقُ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَمَلُهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَلَا تُسْنَدُ إِلَيْهِ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى مَنْ قَامَ بِهِ، بِحَيْثُ يُشْتَقُّ لَهُ الْوَصْفُ مِنْهُ فَيُقَالُ: أَكَلَ زِيدٌ فَهُوَ آكِلٌ، وَصَلَّى عَمْرٌو فَهُوَ مُصَلٍّ، وَسَرَقَ بَكْرٌ فَهُوَ سَارِقٌ، وَلَا يُقَالُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْبَارِئِ تَعَالَى.
وَلَا يَخْلُقُ اللهُ تعالى شَيْئًا قَبِيحًا وَلَا شَرًّا بَلْ هُوَ: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [32: 7] {صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [27: 88] فَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْهِ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ كَمَا وَرَدَ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ الشَّرُّ وَالْقَبِيحُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَقَعُ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ أَوْ عَلَيْهِمْ، وَيُوصَفُ بِهِمَا بَعْضُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَضُرُّهُمْ أَوْ تَسُوءُهُمْ، فَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَلَمٌ أَوْ ضَرَرٌ لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ أَوْ مِنْ حَوَادِثِ الْكَوْنِ يُسَمُّونَهُ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَضُرُّهُ وَإِنْ كَانَ خَيْرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ فَمَنْ هَدَمَ الْمَطَرُ أَوْ فَيَضَانُ النِّيلِ دَارَهُ يُعَدُّ شَرًّا لَهُ وَإِنْ كَانَ خَيْرًا لِمَنْ لَا يُحْصَى مِنَ النَّاسِ، وَكَثِيرًا مَا يَعُدُّ الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ شَرًّا لَهُ لِقِصَرِ نَظَرِهِ أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَبْدَئِهِ، وَيَكُونُ خَيْرًا فِي الْوَاقِعِ أَوْ فِي الْغَايَةِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [24: 11] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [2: 216] وَقَالَ فِيمَنْ يَكْرَهُونَ نِسَاءَهُمْ: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [4: 19] وَأَعْظَمُ هَذَا الْخَيْرِ وِلَادَةُ الْأَوْلَادِ النُّجَبَاءِ، وَلَكِنْ جَمِيعُ مَا يُسَمِّيهِ النَّاسُ شَرًّا مِنْ أَعْمَالِهِمْ أَوْ مِنْ حَوَادِثَ الْكَوْنِ يَقَعُ بِقَدَرِ اللهِ وَوِفَاقِ سُنَنِهِ فِي نِظَامِ الْكَوْنِ وَرَبْطِ أَسْبَابِهِ بِمُسَبَّبَاتِهِ، وَقَدْ رَدَّ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ نُفَاةِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي الْأَشْيَاءِ فِي كِتَابِهِ (مِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ) مِنْ 63 وَجْهًا فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ شَاءَ.
(6) مَسْأَلَةُ سُؤَالِ الْعِبَادِ رَبَّهُمْ عَنْ أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ. قَدْ أَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى لَنَا فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عِبَادَهُ يَسْأَلُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنِ الْجَزَاءِ وَحِكْمَتِهِ فَيُجِيبُهُمْ، كَمَا سَأَلُوا الرُّسُلَ فِي الدُّنْيَا عَنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَفْعَالِ اللهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ فَأُجِيبُوا، وَأَنَّ الْكُفَّارَ يَحْتَجُّونَ فِي الْآخِرَةِ فَيُقِيمُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ. وَمِمَّا حَكَاهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [4: 77] إِلَى قَوْلِهِ: {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} الْآيَةَ. وَقَالَ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [4: 165] وَقَالَ فِي كُفَّارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [20: 134] أَيْ مِنْ قَبْلِ إِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ. وَقَالَ فِي سُؤَالِ الْعِبَادِ رَبَّهُمْ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [20: 124 127] وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْطَى كُلًّا مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَأَهْلِ الْإِنْجِيلِ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى الْعَمَلِ بِكِتَابِهِ قِيرَاطًا قِيرَاطًا، وَأَعْطَى أَهْلَ الْقُرْآنِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، وَضَرَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ مَثَلَ مَنِ اسْتَأْجَرَ عُمَّالًا بِأُجْرَةٍ مُعِينَةٍ عَلَى عَمَلٍ كَثِيرٍ، وَعُمَّالًا بِأُجْرَةٍ عَلَى عَمَلٍ قَلِيلٍ، وَذَكَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمَأْجُورِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ يَسْأَلُونَ رَبَّهُمْ عَنْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ: فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ: أَيْ رَبِّ أَعْطَيْتَ هَؤُلَاءِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، وَأَعْطَيْتَنَا قِيرَاطًا قِيرَاطًا وَنَحْنُ كُنَّا أَكْثَرَ عَمَلًا مِنْهُمْ. قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَهُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَبْوَابِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ وَكِتَابِ التَّوْحِيدِ وَغَيْرِهِمَا. وَهَذَا الْمَعْنَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَدِيدِ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [57: 28] إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 29 وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَطْلَعَ رَسُولَهُ فِيمَا أَظْهَرَهُ مِنَ الْغَيْبِ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ سُؤَالِ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ بِهِمْ عَنْ سَبَبِ تَفْضِيلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِمْ وَإِجَابَتِهِ تَعَالَى إِيَّاهُمُ، وَجَوَابُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ مَبْنِيٌّ عَلَى اتِّصَافِهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ وَتَنَزُّهِهِ عَنِ الظُّلْمِ، وَمِنَ الْعَدْلِ إِعْطَاءُ الْحَقِّ لِمُسْتَحِقِّهِ، وَحَقُّ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا أَنْ يُثِيبَهُمُ الْجَنَّةَ وَلَا يُعَذِّبَهُمْ عَذَابَ مَنْ أَشْرَكَ فِي النَّارِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَسُنَنِ النَّسَائِيِّ أَنَّ مُعَاذًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا رَدِيفُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا آخِرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ»، قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: «يَا مُعَاذُ» قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. ثُمَّ سَارَ سَاعَةً. ثُمَّ قَالَ: «يَا مُعَاذُ» قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: «هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ؟» قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «حَقُّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً» ثُمَّ قَالَ: «يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ» قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: «هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ إِذَا فَعَلُوهُ؟» قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ» رَوَاهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي بِضْعَةِ كُتُبٍ مِنَ الصَّحِيحِ وَمُسْلِمٌ فِي كِتَابٍ الْإِيمَانِ. وَهَذِهِ النُّصُوصُ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ حُجَّةٌ عَلَى الرَّازِيِّ وَمَنْ قَالَ بُقَوْلِهِ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ إِطْلَاقِ عَدَمِ سُؤَالِ الْعِبَادِ رَبَّهُمْ عَنْ شَيْءٍ، وَعَدَمِ ثُبُوتِ أَيِّ حَقٍّ عَلَيْهِ تَعَالَى، وَحُجَّةٌ لِسَلَفِ الْأُمَّةِ الصَّالِحِ وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ حَقًّا مِنْ إِثْبَاتِ كُلِّ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
(7) يُمْكِنُ رَدُّ نَظَرِيَّاتِ الشَّيْخِ الْأَشْعَرِيِّ وَنَظَرِيَّاتِ شَيْخِهِ الْجُبَّائِيِّ مَعًا مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ الَّذِي هُوَ الْأَخْذُ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ مِنْ أَنَّ الثَّوَابَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ، وَأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحِكْمَةِ، وَمُعَلَّلَةٌ بِمَا يَرْجِعُ إِلَى دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، وَكَوْنِ الدُّنْيَا مَزْرَعَةَ الْآخِرَةِ، وَكَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى مَا حَرَّرَهُ الشَّيْخُ الْمُقْبِلِيُّ نَقْلًا عَنْ كُتُبِهِمْ، فَنَذْكُرُ بَعْضَ مَا يَخْطُرُ مِنْ ذَلِكَ بِالْبَالِ، لِيَكُونَ نَمُوذَجًا لِمَنْ يَبْنِي عَقِيدَتَهُ عَلَى قَوَاعِدِ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَيَعْرِفُ الْحَقَّ بِنَفْسِهِ لَا بِآرَاءِ الرِّجَالِ، فَنَقُولُ:
ذَكَرَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ فِي تَرْجَمَةِ الشَّيْخِ أَنَّهُ قَالَ لِلْجُبَّائِيِّ: (مَا قَوْلُكَ فِي ثَلَاثَةٍ: مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَصَبِيٍّ؟ فَقَالَ: الْمُؤْمِنُ مِنْ أَهْلِ الدَّرَجَاتِ، وَالْكَافِرُ مِنْ أَهْلِ الْهَلِكَاتِ، وَالصَّبِيُّ مِنْ أَهْلِ النَّجَاةِ. فَقَالَ الشَّيْخُ: فَإِنْ أَرَادَ الصَّبِيُّ أَنْ يَرْقَى إِلَى أَهْلِ الدَّرَجَاتِ هَلْ يُمْكِنُ؟ قَالَ الْجُبَّائِيُّ: لَا، يُقَالُ لَهُ إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِنَّمَا نَالَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ بِالطَّاعَةِ وَلَيْسَ لَكَ مِثْلُهَا. قَالَ الشَّيْخُ: فَإِنْ قَالَ: التَّقْصِيرُ لَيْسَ مِنِّي فَلَوْ أَحْيَيْتَنِي كُنْتُ عَمِلْتُ مِنَ الطَّاعَاتِ كَعَمَلِ الْمُؤْمِنِ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ: يَقُولُ لَهُ اللهُ: كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّكَ لَوْ بَقِيتَ لَعَصَيْتَ وَلَعُوقِبْتَ، فَرَاعَيْتُ مَصْلَحَتَكَ وَأَمَتُّكَ قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى سِنِّ التَّكْلِيفِ. قَالَ الشَّيْخُ: فَلَوْ قَالَ الْكَافِرُ يَارَبِّ عَلِمْتَ حَالَهُ كَمَا عَلِمْتَ حَالِي فَهَلَّا رَاعَيْتَ مَصْلَحَتِي مِثْلَهُ؟ فَانْقَطَعَ الْجُبَّائِيُّ).
فَأَمَّا جَوَابُ الْجُبَّائِيِّ الْأَوَّلُ فِي الْمُؤْمِنِ الطَّائِعِ وَالْكَافِرِ الْفَاسِقِ فَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي بَيَّنَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ فِي جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [8: 4].
وَقَوْلُهُ فِي جَزَاءِ الْفَرِيقَيْنِ بِالْإِجْمَالِ: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [6: 132] وَسَتَأْتِي قَرِيبًا، وَقَوْلُهُ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [20: 74، 75] فَهَذِهِ الْآيَاتُ وَغَيْرُهَا مِنَ النُّصُوصِ فِي الْمَسْأَلَةِ بِلَفْظِ الدَّرَجَاتِ وَتَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْوَصْفِ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً لَهُ، كَمَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَالنُّصُوصُ فِي تَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ مَعَ الْأَعْمَالِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَكَذَلِكَ جَوَابُهُ الْأَوَّلُ عَنْ مَسْأَلَةِ الصَّبِيِّ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الدَّرَجَاتِ الَّتِي نَالَهَا الْمُؤْمِنُ الَّذِي عَمِلَ الصَّالِحَاتِ بِحَسَبِ وَعْدِ اللهِ الْحَقِّ وَجَزَائِهِ الْعَدْلِ، وَلَكِنَّ ذُرِّيَّةَ الْمُؤْمِنِينَ تَلْحَقُ بِالْأَصْلِ. وَأَمَّا جَوَابُهُ الثَّانِي فَهُوَ خَطَأٌ نَشَأَ عَنْ غَفْلَتِهِ عَنْ فَسَادِ السُّؤَالِ فِي نَفْسِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ عَدَمَ حَيَاةِ الصَّبِيِّ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ وَيَعْمَلَ مَا يَعْمَلُ مَسْأَلَةٌ عَدَمِيَّةٌ لَا وَجْهَ لِسُؤَالِ الْخَالِقِ عَنْهَا، وَلَا يَأْتِي فِيهَا مَسْأَلَةُ الْأَصْلَحِ فِي مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ أَفْعَالَهُ وَأَحْكَامَهُ تَعَالَى يَجِبُ بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ أَلَّا تَخْلُوَ عَنْ مَصْلَحَةٍ، وَأَنْ تَكُونَ مِنْ حَيْثُ هِيَ صَادِرَةٌ عَنْهُ تَعَالَى حَسَنَةً وَخَيْرًا. وَلَا تَقْتَضِي قَوَاعِدُهُمْ هَذَا فِي الْأُمُورِ الْعَدَمِيَّةِ السَّلْبِيَّةِ بِأَنْ يُقَالَ مَثَلًا: إِنَّمَا لَمْ يَخْلُقْ مِنْ صُلْبِ فُلَانٍ مِائَةَ رَجُلٍ لِكَذَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ، وَلَمْ يَجْعَلْ عُمْرَ فُلَانٍ أَلْفَ سَنَةٍ لِكَذَا وَكَذَا.
وَأَمَّا النَّظَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ جِهَةِ الْقَدَرِ وَالسُّنَنِ فَيُقَالُ فِيهِ بِالِاخْتِصَارِ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى جَلَّتْ حِكْمَتُهُ قَدْ مَضَتْ سُنَّتُهُ فِي نِظَامِ أُمُورِ الْخَلْقِ أَنْ يَكُونَ لِطُولِ الْعُمْرِ أَسْبَابٌ، مَنْ رُوعِيَتْ فِيهِ صَغِيرًا مِمَّنْ يَقُومُ بِأَمْرِ تَرْبِيَتِهِ وَرَاعَاهَا فِي أَعْمَالِهِ الَّتِي يَسْتَقِلُّ بِهَا مِنْ أَوَّلِ النَّشْأَةِ طَالَ عُمْرُهُ بِتَقْدِيرِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّ لِاخْتِيَارِ الْإِيمَانِ عَلَى الْكُفْرِ وَضِدِّهِ وَاخْتِيَارِ الطَّاعَةِ عَلَى الْعِصْيَانِ وَضِدِّهِ أَسْبَابًا بِحَسَبِ السُّنَنِ وَالْأَقْدَارِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ مِرَارًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ، وَكُلُّ تِلْكَ الْأَقْدَارِ وَالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُنْتَهَى الْحِكْمَةِ وَالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَفَوْقَ ذَلِكَ مَا لَمْ تَصِلْ إِلَيْهِ بَصَائِرُ غُلَاةِ الْقَدَرِيَّةِ مِنَ الْجُودِ وَالْفَضْلِ، فَلَوْ سَأَلَ صَبِيٌّ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَ لَمْ يَطُلْ عُمْرُهُ عَسَاهُ يَعْمَلُ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى؟ فَالْمَعْقُولُ أَنْ يُبَيِّنَ اللهُ لَهُ تَعَالَى مَا خَفِيَ عَنْهُ مِنْ سُنَنِهِ وَتَقْدِيرِهِ لِأَسْبَابِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ وَكَوْنِ سُنَنِهِ لَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَتَبَدَّلُ، وَأَنَّ إِطَالَتَهُ لِعُمْرِ فُلَانٍ دُونَ فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ خَلْقًا أُنُفًا جَدِيدًا كَمَا تَزْعُمُ الْقَدَرِيَّةُ النُّفَاةُ حَتَّى يَرِدَ فِيهِ السُّؤَالُ: لِمَ خَصَّ فَلَانًا بِكَذَا وَحَرَمَ مِنْهُ فَلَانًا وَهُوَ مِثْلُهُ؟.
فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ مَسْأَلَةَ إِطَالَةِ أَعْمَارِ بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ لَيْسَ مِنَ الْجُودِ الْخَاصِّ الَّذِي يَخْتَصُّ اللهُ بِهِ تَعَالَى بَعْضَ الْعِبَادِ تَفْضِيلًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَعِنَايَةً بِهِ كَمَا فَضَّلَ بَعْضَ الرُّسُلِ عَلَى بَعْضٍ، وَكَمَا فَضَّلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ عَلَى الْأُمَمِ بِإِيتَائِهَا كِفْلَيْنِ مِنَ الْأَجْرِ، وَلَا عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْكَلَامِ فِي التَّوْفِيقِ حَتَّى يَكُونَ الْمَحْرُومُ مِنْهَا مَخْذُولًا، وَإِنَّمَا طُولُ الْأَعْمَارِ وَقِصَرُهَا وَالْأَمْرَاضُ جَارِيَةٌ عَلَى وِفْقِ الْمَقَادِيرِ الْمُطَّرِدَةِ وَالسُّنَنِ الْعَامَّةِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَتْ عَامَّةً فِي الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، فَهِيَ كَمَسْأَلَةِ الرِّزْقِ فِي سَعَتِهِ وَضِيقِهِ، قَالَ تَعَالَى فِيهَا: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [17: 20، 21] أَمَّا كَوْنُ الْآخِرَةِ أَكْبَرَ دَرَجَاتٍ فَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْآخِرَةِ مِنْ دَرَجَاتِ النَّعِيمِ وَالْكَرَامَةِ فَهُوَ أَعْظَمُ وَأَرْقَى مِمَّا فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا كَوْنُهَا أَكْبَرَ تَفْضِيلًا فَلِأَنَّ التَّفْضِيلَ فِيهَا يَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا أَعْظَمَ مِمَّا فِي الدُّنْيَا بِمَا لَا يُقَدَّرُ قَدْرَهُ؛ وَلِأَنَّهُ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: أَجْرٌ عَلَى الْأَعْمَالِ يُضَاعَفُ لِعَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ عَشَرَةَ أَضْعَافٍ، وَثَانِيهِمَا: فَضْلٌ لَا حَدَّ لَهُ، لَا جَزَاءَ عَلَى عَمَلٍ يُكَافِئُهُ. وَبِهَذَا الْجَوَابِ الَّذِي بَيَّنَاهُ لَا يَبْقَى مَجَالٌ لِقَوْلِ الْكَافِرِ وَسُؤَالِهِ.